عرض المادة

سقوط الدولة العباسية

29798 | الجمعة PM 07:49
2009-09-25

سقوط الدولة العباسية

الحمد لله الذي قضى على كل مخلوق بالفناء؛ وتفرد بالعز والبقاء؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه هداة الأنام ومصابيح الدجى.

أما بعد:

فإن من المعلوم للعقلاء أن الحق والباطل لا زالا في صراع منذ قيام الدنيا وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، وإن في قصص الزمان لعبرةً للمعتبر وعظة للمتعظ، والعاقل الفطن هو الذي يأخذ من قصص الزمان عبراً وعظات.

ففي عام 656 من الهجرة؛ كان سقوط الدولة العباسية؛ وانتهاء عصرها وأفول شمسها؛ بعد إن استمرت ردحاً من الزمن.

وقد كان سقوطها من أعظم المآسي التي حلّت بهذه الأمة؛ حتى صارت غصة في حلق التاريخ؛ وقصة يندى لها جبين  البشرية؛ وتتصدع لهولها الجبال الراسيات؛ وعقت الأيام والليالي أن تلد مثلها؛وقد حدث بسببها ما حدث من المحن والويلات العظيمة التي جُرَّت على الأمة الإسلامية؛ بسبب غفلةٍ وحسنِ ظن وطيب نية؛ استغلها من في قلبه حقد ودغل على الإسلام وأهله؛ وقد بات في خلده حلم لا يغيب يتمثل بتغيير الواقع المنير إلى واقع مظلم بئيس.

وهذه هي سنة الله Uفي خلقه، قال I: ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازّينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون) ؛ وقال نبينا الكريم r :« حقٌ على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه » .

 

 

 

 

 

 

لكل شيءٍ إذا مـا تم نُقصــانُ

فلا يُغَرُّ بطيب العيش إنســانُ

 

هي الأمور كمـا شاهدتها دول

من سرّه زمـن سـاءته أزمانُ

 

وهذه الدار لا تبقـي على أحدٍ

ولا يدوم على حـال لها شانُ

 

ففي تلك الحقبة الزمنية خرج التتار من المشرق ؛ وعاثوا في الأرض فساداً ؛ وتسلطوا على المسلمين في كثير من الدول الإسلامية بسب تفرقهم ونزاعهم وتخاصمهم ؛ وشردوهم كل مشرد؛ وفعلوا بهم ما يعجز البيان عن وصفه؛ وما هذا إلا لحكمة يريدها الله سبحانه.

 يذكر أهل التاريخ أن المستنصر-والد المستعصم- رحمه الله كان ذا همة عالية ؛ وشجاعة وافرة؛ ونفس أبية؛ وعنده إقدام عظيم ، وقد استخدم جيوشاً كثيرةً وعساكر عظيمة في الخلافة ، كما كان له أخ يُعرف بالخفاجي؛ كان يزيد عليه بالشجاعة و الإقدام؛ وقد ذُكر عنه أنه كان يقول: إن ملّكني الله الأرض لأعبرن بالجيوش نهر ديجون ؛ وأنتزع البلاد من التتار وأستأصلهم.

فلما توفي المستنصر فضّل أكابر الأمراء ممن كانوا بعده أن يعّين المستعصم ؛ لأنهم خافوا من إقدام الخفاجي؛ وعلموا في المستعصم ضعف رأيه وانقياده لهم؛ فأرادوا أن تكون لهم الكبرياء فأقاموه خلفاً للمستنصر.

ومع الأسف الشديد فإن بداية الطامة والمصيبة العظمى التي أدت إلى سقوط دولة بني العباس؛ أن الخليفة المستعصم بالله- غفر الله له-قد اتخذ وزيراً خبيثاً رديء المذهب يقال له: ابن العلقمي وذلك في عام 642هـ .

وقد حبب ابنُ العلقمي إلى الخليفة جمع المال والتقليل من العساكر؛ ولم يعصم المستعصم بالله في وزارته ؛ ولم يكن وزير صدق ولا مرضي الطريقة.

وكان ابن العلقمي معادياً للأمير أبي بكر ابن الخليفة وأصحابه؛ لأنه في عام 555هـ قام أبو بكر بتأديب أهل الكرخ ومحلة جماعة ابن العلقمي في بغداد؛ حين سمع أنهم قد تعرضوا لأهل السنة بالأذى.

وحينذاك فقد تملك الحقد من ابن العلقمي، وأضمر في نفسه الغل؛ واشتد حنقه على أهل الإسلام ؛ وقام بتدبير أكبر مكيدة على الإسلام وأهله ؛ مما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه ؛ منذ أن بنيت بغداد وحتى وقوع هذه الحادثة.

وكتب الوزير ابن العلقمي إلى خليفة إربل "محمد بن صلايا"-وهو على مذهبه- رسالةٌ يقول فيها : " نُهب الكرخ المكرم ؛ وقد عزموا لا أتم الله عزمهم ؛ ولا أنفذ أمرهم على نهب الحلة والنيل؛ بل سولت لهم أنفسهم أمراً فصبر جميل، والخادم قد أسلف الإنذار؛ وعجل لهم الأعذار؛ فلا بد من الشنيعة بعد قتل جميع الأصحاب ؛ فكن لما نقول سميعاً وإلا جرعناك الحمام تجريعاً ؛ "ولآتينَّهم بجنود لا قبل لهم بها ولأخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون".

فاجتهَد ابنُ العلقمي في إعداد المخططات والمكائد؛ فكان يبذل كلَّ ما في وسعه لصرف جيوش الدولة العباسية ؛ وإسقاط أسهمهم من الديوان ؛ فقد بلغت العساكر في آخر أيام المستنصر-والد المستعصم- قريباً من مائةِ ألف مقاتل من الأمراء، وممن هو كالملوك الأكابر الأكاسر، فما زال يجتهد ابن العلقمي في تقليلهم؛ ويزين ذلك للخليفة بحجة تقليل النفقات؛ وحجج أخرى واهية؛ حتى إنه لم يبق في زمان المستعصم سوى عشرة آلاف.

تأمل! من مائة ألف إلى عشرة آلاف!

خلافة إسلامية ولها عشرة آلاف جندي! كيف يستقيم هذا؟ وكيف يصنعون في مواجهة الأعداء؛ والتتار يبلغون الأعداد الهائلة؟

ثم بعد ذلك كاتب ابن العلقمي التتار؛ وأطمعهم في البلاد؛ وسهل عليهم ذلك؛ وحكى لهم حقيقة الحال؛ وكشف لهم ضعف الرجال؛ وذلك طمعاً في أن يزيل السنّة بالكلية؛ وأن يظهر البدعة ؛ ويقيم خليفة من الفاطميين؛ وأن يبيد العلماء والمفتين؛ وقد قيل:

كل العداوات قد ترجى مودتها

إلا عداوة من عاداك في الدينِ

ثم استهلت سنة656هـ؛ وجنود التتار كانوا قد نازلوا بغداد بقيادة زعيمهم هولاكو ؛ وجاءت إليهم إمدادات صاحب الموصل يساعدونهم –ومع الأسف الشديد- على البغاددة!

كل ذلك خوفاً من التتار؛ فصاحب الموصل خاف على حكمه فساعد التتار على إخوانه من البغاددة ؛ فعل ذلك مصانعة للتتريين قبحهم الله جميعا.

وعند ذلك سترت بغداد؛ ونصبت عليها المجانيق وغيرها من آلات الممانعة؛ ولكن لا راد لما قدر الله؛ فقد أحاطت التتار ببغداد؛ وبدار الخلافة بالذات؛ يرشقونها بالنبال من كل جانب.

وقد كان زمن قدوم هولاكو بجنوده كلهم-وهم نحو مائتي ألف مقاتل- إلى بغداد في ثاني عشرَ المحرم من تلك السنة؛ وكان شديد الحنق على دولة الإسلام وأهلها؛ فجاء بتلك الجنود الكثيرة التي لا تحصى عدداً؛ فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية؛ وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة؛ لا يبلغون عشرة آلاف فارس وهم بقية الجيش؛ قد صُرفوا عن استقطاعاتهم التي يُعطون إياها.

بل ويذكر أهل التاريخ أن بعضهم صار يستجدي في الأسواق وأبواب المساجد؛ وصار الجند يطلبون من يستخدمهم في حمل القاذورات، ومنهم من يكاري على فرسه؛ ليصلوا إلى ما يتقوتون به؛ حتى أنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم؛ ويحزنون على الإسلام وأهله.

فتأمل ما آل  إليه الحال من غايةٍ في الضعف والذلة؛ بسبب مشورة وزير السوء ابن العلقمي.

ولهذا كان أول من برز إلى التتار عندما قدموا بغداد هو ابن العلقمي؛ وقد أشار على الخليفة بمصانعتهم؛ وقال: أَخرُج أنا إليهم في تقدير الصلح وتقريره، فخرج وتوثق لنفسه من التتار؛ ثم رجع إلى المستعصم وقال: إن السلطان يا مولانا أمير المؤمنين قد رغب في أن يزوج ابنته بابنك الأمير أبي بكر، ويبقيك في منصب الخلافة كما أبقى صاحب الروم في سلطنته، على أن تكون الطاعةُ له، وينصرف عنك بجيوشه؛ وقال للخليفة من باب إظهار الصورة الحسنة له: فيا مولانا أمير المؤمنين ليتك تفعل هذا ، فإن فيه حقنَ دماء المسلمين، وبعد ذلك يمكننا أن نفعل ما نريد ؛ ثم عاد وأشار على الخليفة بالخروج إلى هولاكو، وأن يَمثُل الخليفة العباسي بين يديه؛ لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق للخليفة العباسي المستعصم بالله، والنصف الآخر لهولاكو.

فخرج الخليفة المستعصم بالله في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء ورؤوس الأمراء والأعيان، وذلك بمشورةِ ابن العلقمي الذي ما أراد بهم خيراً ؛ فلما اقتربوا من منـزل السلطان هولاكو؛ حجبوهم عن الخليفة وقُتِلوا عن آخرهم، ولم يبق مع الخليفة إلا سبعة عشر نفساً؛ وأُحضِر الخليفةُ بين يدي هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة؛ فاضطرب كلامُ الخليفة من هول ما رأى من الإهانة والجبروت؛ ثم عاد إلى بغداد وفي صحبته خوجةُ نصير الطوسي والوزير بن العلقمي .

ثم أشار أولئك الملأ من المنافقين على هولاكو أن يصالح الخليفة ؛ فقال الوزير ابن العلقمي-لكيده ومكره وحقده على الإسلام وأهله- : متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر إلا عاماً أو عامين ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك، فحسّن لهولاكو قتل الخليفة .

تأمّل!

لما قدم الخليفة إلى هولاكو تهيّب-رغم جبروته وطغيانه- من قتله ؛ وذلك لقرابته من رسول الله r ؛ فهوّن عليه الطوسي والوزير ابن العلقمي ذلك؛ وعند ذلك أمر بقتله؛ قيل إنه خنق خنقاً؛ وقيل إنه أغرق.

وسبحان الله: ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) ؛ فباءوا بإثمه وإثم من كان معه من سادات العلماء والقضاة والأكابر والرؤساء والأمراء وأولي الحل والعقد في بلاده.

ثم بعد ذلك مالوا على البلد؛ فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والشيوخ والكهول والشبان؛ ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش؛ وكمنوا كذلك أياما لا يظهرون.

وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب؛ فيفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار؛ ثم يدخلون عليهم فيهربون إلى أعلى الأماكن فيقتلونهم بالأسطح حتى تجري الميازيب من الدماء في الشوارع، وكانوا يدخلون عليهم في المساجد والجوامع، ولم ينجُ منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصـارى؛ ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العـلقمي!.

وعادت بغداد -بعد أن كانت آنس المدن كلها-خراباً؛ ليس فيها إلا القليل من الناس؛ وهم في خوف وجوع وذلة وقلة.

وقد اختلف في عدد القتلى ممن مات ببغداد من المسلمين في هذه الواقعة؛ فقيل ثمانمائة ألف؛ وقيل مليون؛ وقيل مليونين؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون ؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وكان دخول التتار إلى البلاد في أواخر محرم؛ ومازال السيف يقتل أهلها أربعين يوما؛ وكان قتل الخليفة المستعصم بالله يوم الأربعاء رابع عشر من شهر صفر؛ وعفي قبره ولم يعرف؛ وقُتِل معه ولداه الأكبر والأوسط؛ وأسر ولده الأصغر مبارك ؛ وأسرت أخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم؛ وأسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل؛ والله أعلم.

وكان الرجل من بني العباس يُستدعى به من دار الخلافة؛ فيخرج بأولاده ونسائه؛ فيُذهب به إلى مقبرة الخلاّل؛ فيذبح كما تُذبح الشاة؛ ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه.

فتأمل غاية الذل والمهانة التي تسبب بها وزير السوء ابن العلقمي؛ وصدق في حالهم آنذاك في تفرقهم وتشتتهم قول القائل:  

يا رُبَّ أم وطفـل حيـل بينهـما

كما تفـرق أرواح وأبـــدانُ

 

وطفلة مثل عين الشمس إذ طلعت

كأنمـــا هي ياقوت ومرجانُ

 

يقودها العـلج للمـكروه مكرهة

والعين باكية والقلـب حيـرانُ

 

وكان يومـاً عظيماً من كثرة البكاء من الرجال والنساء والولدان ؛ فتفرقوا وتمزقوا كل ممزق ؛ واقتسم التتار النساء ؛ وارتكبوا معهن الفواحش ؛ والناس ينظرون ويبكون ؛ ولا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم شيئاً مما نزل بهم ؛ وأضحت البلاد خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس ؛ وقُتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن؛ وتعطلت المساجد والجماعات والجمع مدة شهور ببغداد.

وأراد الوزير ابن العلقمي قبحه الله ولعنه؛ أن يعطل المدارس والمساجد؛ ويرفع المشاهد والقبور والأضرحة لمن يزعم أنهم أولياء؛ ويجعل بغداد مجالاً للشرك؛ وأن يبني لملته مدرسة هائلة ينشرون بها علمهم ؛ والحمد لله أنّ الله لم يقدره على ذلك؛ بل أزال نعمته عنه؛ وقصف عمره بعد شهور يسيرة من هذه الحادثة المؤلمة وأتبعه بولده.

ولما انقضى الأمر المقدر ؛ وانقضت الأربعون يوماً ؛ بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس؛ وأصبح القتلى في الطرقات كأنهم التلول ؛ وقد سقط عليهم المطر ؛ فتغيرت صورهم ؛ وأنتنت جيفهم ؛ وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد ؛ حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد غير بغداد فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح ؛ فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون ؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم بعد ذلك نودي ببغداد بالأمان فخرج مِن تحت الأرض مَن كان بالمطامن والمقابر كأنهم الموتى إذا نُبشوا من قبورهم؛ وقد أنكر بعضُهم بعضاً؛ فلا يعرفُ الوالدُ ولدَه ؛ ولا الأخُ أخاه!.

ولا يستغرب ذلك ؛ فأربعون يوماً وهم مدفونون تحت الأرض؛ والله المستعان.

ثم بعد ذلك أخذهم الوباء الشديد ؛ فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من شدة الأمراض والوباء ؛ واجتمعوا تحت الثرى ؛ بأمر الذي يعلم السر وأخفى؛ الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى.

فجائع الدهــر أنواع منوعــةٌ

وللزمان مسراتٌ وأحــــزانُ

وللحـوادث سلـوان يهوِّنهــا

ومـا لمـا حل بالإسلام سلـوانُ

 

وكان رحيل السلطان المسلط هولاكو قاتله الله عن بغداد؛ في جمادى الأولى من هذه السنة؛ رحل إلى مقر ملكه وفوض أمر بغداد إلى الوزير ابن العلقمي الذي لم يمهله الله ولا أهمله ؛ بل أخذه أخذ عزيز مقتدر ؛ فمات جهداً وغماً وحزناً وندماً ؛ إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم.

وقد كان مبتدعاً خبيثاً رديء الطوية على الإسلام وأهله ؛ وقد حصل له من التعظيم والوجاهة في أيام المستعصم ما لم يحصل لغيره من الوزراء ؛ إلا أنه مالأَ الكفار على الإسلام وأهله ؛ وكان نتيجة فعله ما حل بالإسلام وأهله من البلاء، ثم حصل له بعد ذلك من الإهانة والذل على أيدي التتار الذين مالأهم؛ وزال عنه ستر الله، وذاق الخزي في الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة إن شاء الله أخزى وأشد.

وقد رأته امرأة ذات يوم وهو في الذل والهوان؛ فوقفت إلى جانبه وقالت: يا ابن العلقمي أهكذا كان بنو العباس يعاملونك؟!

فوقعت كلمتها في قلبه ؛ وانقطع في داره إلى أن مات كمداً وغبينةً وضيقاً ؛ وقلة وذلة، ودفن بعد ذلك في قبور أهل الشرك ؛ وقد سمع بأذنيه ، ورأى بعينيه من الإهانة والذل على أيدي التتار والمسلمين مالا يُحدُّ ولا يوصف.

إن هذه القصة تذكر لنا تلك المأساة العظيمة التي تسبب بها وزير السوء ابن العلقمي في سقوط تلك الدولة الفتية دولة بني العباس ، التي كانت تدين لها مشارقُ الأرض ومغاربُها بالولاء والطاعة؛ ثم تمالأ عليها إلى أن أسقطها حقداً وضغينة للإسلام وأهله.

إنها حقاً قصة مؤلمة.!

فإن هذه الدولة لم تنته نهاية عاديّة ؛ أو زالت  من غير ضحايا؛  إنما زالت وخلفت جراحاً لا تزول من القلوب.

يؤرقـني حنـينٌ وادّكــــارُ

وقــد خلـت المرابـع والديارُ

 

تناءى الظـاعنون ولـي فــؤاد

يسير مع الهـوادج حيـث ساروا

 

 

حنيــن مثلما شـــاء التنائي

وشـــــوق كلما بعد المزارُ

 

وليلي بعد بَيْنِهِمُ طويــل

فأين مضــت لياليّ القصـــارُ

 

وقد حكم السهاد على جفــوني

تســـاوى الليل عندي والنهارُ

 

سهادي بعد نأيهـمُ كثـــير

ونومي بعد مــــا رحلوا غرارُ

 

فمن ذا يستعير لنا عيونـــــاً

تنــام.. وهل تـرى عينا تُعــارُ؟!

 

وكم من قائل والحي غـــــادٍ

يحجّب ظعنه النقـــــع المثارُ

 

وقوفـك في الديـــار وأنت حي

وقـد رحل الخليـــط عليك عارُ

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين؛ والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين،     وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإن العاقل هو الذي يستفيد من دروس الزمان ؛ حتى لا يقع في الخطأ الذي وقع فيه غيره ؛ وحتى لا يكون ضحية مؤامرةٍ قد وقع مثلها في سالف الأزمان؛ ؛ فسنة الله U أن تتكرر الوقائع والأحداث؛ وصاحب البصيرة هو الذي يقلب التاريخ؛ ويستفيد من عظاته.

فكم هو حريٌّ بالمؤرخين والعقلاء ؛ وولاة الأمور الذين ولاهم الله I على الناس؛ أن يطّلعوا على قصص التاريخ ؛ ويعرفوا مكائد العدو ؛ حتى لا يُدخل عليهم من حيث لا يشعرون؛ ومن تأمل في هذه الواقعة المؤلمة؛ رأى فيها العبرَ المهمة التي ينبغي لكل عاقل أن يحفظها بقلبه؛ ويجعلها نصب عينيه.

فمن ذلك: أنه يجب على من ولّاه اللهُ أمرَ جماعة من المسلمين أن يتخذ المعين الصالح والمستشار المؤتمن؛ فإنه خيرُ عونٍ له على تدبير أمور الحكم؛ قال الإمام ابن حبان البستي/:"رؤساء القوم أعظمهم هموماً؛ وأدومهم غموماً؛ وأشغلهم قلوباً؛ وأشهرهم عيوباً؛ وأكثرهم عدواً ؛ وأشدهم أحزاناً ؛ وأكثرهم في القيامة حساباً؛ وأشدهم - إن لم يعفُ الله عنهم- عذابا  ؛ ومن أحسن ما يستعين به السلطان على أسبابه ؛ اتخاذ وزير عفيف ناصح ؛ فإن الوزير إذا غفل الأمير  ذكره ؛ وإذا ذكر أعانه ؛ وإن سولت له نفسه سيئة صده؛ وإذا أراد طاعة نشّطه؛ فهو المحبب له إلى الناس ؛ والمستجلب له دعاءهم" .

وقال:" الواجب على السلطان قبل كل شيء أن يبدأ بتقوى الله ؛ وإصلاح سريرته بينه وبين خالقه ؛ ثم يتفكر فيما قلده الله من أمر إخوانه ورفعه عليهم ؛ ليعلم أنه مسؤول عنهم في دق الأمور وجلها ؛ ومحاسب على قليلها وكثيرها ؛ ثم يتخذ وزيراً صالحاً عفيفاً نصوحاً ؛ ولا يدوم مُلْكُ ملكٍ إلا بأعوان تطيعه ؛ ولا يطيعه الأعوان إلا بوزير ، ولا يتم له ذلك إلا أن يكون الوزير ودوداً نصوحاً ؛ ولا يوجد ذلك من الوزير إلا بالعفاف والرأي؛ ولا يتم قوام هؤلاء إلا بالمال ؛ ولا يوجد المال إلا بصلاح الرعية ؛ ولا تصلح الرعية إلا بإقامة العدل ؛ فكأن ثبات الملك لا يكون إلا بلزوم العدل ؛ وزواله لا يكون إلا بمفارقته".

وقال بعض الكتاب : " إن السلطان إذا كان صالحاً ووزراؤه وزراء سوء منعوا خيره ؛ فلا يقدر أحد أن يدنو منه ؛ ومثله في ذلك مثل الماء الطيب الذي فيه التماسيح ؛ لا يقدر أحد أن يتناوله وإن كان إلى الماء محتاجاً ؛ وإنما الملك زينته أن يكون جنده ووزراؤه ذوو صلاح ؛ فيسددون أحوال الناس ؛ وينظرون في صلاحهم".

وكان كسرى يُعرف بالحكمة ؛ ومن أقواله "إنما الملك بالأعوان".

كما يجب الحذرُ من تقريب العدو وإبعاد الصديق ؛ فيقال إن سقوط دولة بني أمية كان سببه أنهم أبعدوا الصديق لأنهم قد أمنوا جانبه ؛ وقربوا العدو واتخذوه صديقاً حتى يأمنوا شره!!

فحدث أن بقي العدو على عداوته وازداد عداوة وتمكيناً ؛ وأصبح الصديق عدواً؛ لأن الصديق إذا حرمته ؛ ولم يجد منك وداً ولا مكانة ؛ لعله لا يصبر فينقلب إلى عدو.

ولذلك إذا وُجد الصديق؛ فإنه يجب أن يعطى المكانة التي تنبغي له ؛ وإذا وجد الإنسان الذي يرى منه حرصه على الأمة؛ وعلى سلامة الناس وتوجيههم التوجيه السليم؛ فيجب أن يُتخذ صديقاً ؛ وأن يُعطى قدره الذي ينبغي له.

ومن الدروس المستفادة من هذا الحدث المؤلم: أنه ينبغي تقوية جيش المسلمين؛ خصوصا إذا كانت تلك البلاد مما يخاف عليها المسلم ؛ ويظنها بعد الله ملجأ إذا حدث أي حادث ؛ ومما يجب حمايتها ؛ فيجب تكثير الجيش والإغداق عليهم ؛ وأذكر مثالاً واحداً : فهذه دولة النمسا يقال إن عدد أهلها أربعة ملايين ؛ ومع ذلك لا تطمع أكبر دولة أن تقتحمها؛ وذلك لأنهم يجندون مليوني شخص ؛ كلهم مدربون على السلاح ؛ ومتى احتيج إليهم وُجِدوا .

فيجب تقوية الجيش ؛ ألا ترى أنّ ابن العلقمي عندما أراد تضعيف تلك الدولة العباسية أضعف الجيش وقللهم ؛ وأشار على الحاكم بتقليل رواتبهم ؛ وهذا يؤدي بالإنسان إلى الحقد ؛ لأن من طبيعة الإنسان أنه متى أعطي أحب ؛ ومتى مُنع بغض؛ إلا من رحمه الله ووفَّقه للعمل بكتاب الله وسنة رسوله r.

ولكن مع هذه الشبهات والشهوات ؛ متى يعرف الإنسان الحق؟

ولذلك يجد من أهل الشر من يدخل عليه مدخل سوء ؛ ويسوّل له شراً ؛ ولكن عندما يعطى يشكر النعمة ؛ وقد قيل:

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ

فطالما استعبد الإنسانَ إحســانُ

كما يجب التبصر بأحقاد أعداء الإسلام للإسلام وأهله ؛ قال الله سبحانه :( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم) ؛ ولذلك يجب على أهل الخير من الدعاة والمخلصين أن ينتبهوا لهذا غاية الانتباه؛ وأن يقرّبوا وجهات النظر؛ وأن يعلموا أن كثيراً من الأمور الإفسادية الموجودة؛ يجب أن تعالج بالحكمة وبالدليل الشرعي وبالنصيحة والهدوء وعدم الاستفزاز.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقي هذه الأمة كل شر..

وأن ينجينا من مكائد الكائدين وأحقاد الحاقدين ..

 

Powered by: GateGold

جميع الحقوق محفوظة لموقع الموقع الرسمي للدكتور سالم العجمي