وقعة شَقْحَب

الحمد لله الذي خلق كلَّ شيء فقدره تقديرًا، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذَّكر أو أراد شكورًا، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله أرسله إلى جميع الخلق بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد، أيها المسلمون:

ففي أواسط التاريخ الإسلامي كانت بداية ظهور التتار وغزوهم بلاد الإسلام، حيث عاثوا بها فسادًا، وأحدثوا بها من المصائب ما لا يعلمه إلا الله، ولا زالوا ينتقلون من بلد إلى بلد، وقد عمَّ بهم البلاء، وانتشروا بجموعهم كالوباء، وقد كان فتكهم بالمسلمين مما يعجز عنه الوصف لشناعته، ويمتنع عن تصوُّره الفكر لبشاعته.

ولا زالوا مستمرين في أعمالهم الشنيعة، وقد توارث ذلك حكامهم حاكمًا بعد حاكم، ابتداء من سقوط الدولة العباسية في بغداد عام ستمائة وستةٍ وخمسين.

ولما أراد الله سبحانه رفع البلاء عن أمة الإسلام، فقد أذاقهم الهزيمة النكراء في وقعة شَقْحَب في الشام عام سبعِمائة واثنينِ من الهجرة، بعد أن ذاقت منهم أمة الإسلام الهمَّ والويلات، فدفع اللهُ شرَّهم عن المسلمين.

ففي عام ستمائة وتسعةٍ وتسعين كان السلطان الناصر محمد بن قلاوون رحمه الله سلطانًا للبلاد المصرية والشامية وما يتبعها من الممالك، وقد نقلت إليه الأخبار بأن التتار قد عزموا على غزو بلاد الشام، فسافر إلى جهة الشام، ونزل بقلعة دمشق، وشرع في الإنفاق على العساكر، فينما هو كذلك إذ جاءه الخبر بقدوم التتار إلى الشام، فخرج إلى لقاء العدو وخرجت معه الجيوش فلم يتخلف منهم أحد، ولما وصلوا إلى حمص أرسلوا إلى العرب يخبرونهم بمجيء العدو ويستنصرون بهم عليه.

فوصل التتار إلى حمص، وعلى رأسهم قائدهم غازان، ولما صار المسلمون في قبالة جيش التتار، أخذ أمراء السلطان ومعهم الفقهاء يدورون على العسكر ويتلون عليهم آيات الجهاد، ويحرضون على الجهاد وتوطين النفس على الملاقاة حتى غشي الناسَ البكاءُ والتوجع.

وقد كان قازان قائدًا ذا معرفة بالحروب، وقد أمر أصحابه إن رأوا جيش المسلمين ألا يتحركوا من أماكنهم حتى يدخل عليهم جيش المسلمين، وأراد بذلك أن يكسر همة الفرسان، وأن يمكِّن رماته من رمي السهام، لأن ذلك أثبت لهم وأسكن.

فلما تقدم عسكر المسلمين إليهم مع بعد المسافة وثبات العدو وعدم حركتهم، وقد بردت الهمة، عند ذلك حملت التتار حملة قوية حتى اختلطوا بالمسلمين، وأصابت سهامهم خيلًا كثيرًا منهم، ورموا فرسانها، فانكسر المسلمون كسرًا شنيعًا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

وكان السلطان الناصر قد انعزل في جمع قليل من المماليك، وكان يبكي وينظر إلى السماء ويقول: يارب، لا تجعلني كعب الشؤم على المسلمين، ويدعو الله تعالى ويتضرع إليه ويريد أن يلقي نفسه بين القوم، إلا أن بعض أمرائه قد ردَّه ومنعه.

فلما انكسر المسلمون سار السلطان الناصر بمن معه نحو بعلبك، ولو تربص في ذلك الوقت لكان أوقع نفسه بيده إلى التهلكة، فكان سببًا لفساد المملكة، فكان كقول القائل:

اللَّـه يعلم ما تركت قتالهم

حتى علوا فرسي بأشقر مزبدِ

وعلمت أني إن أقاتل واحدًا

أُقتَلْ ولا يضرُر عدوي مشهدي

فصدفت عنهم والأحبة فيهمُ

طعمًا لهم بعقاب يوم مفْندِ

ولما انهزم العسكر، أخذ الأمير بدر الدين الطيار حريمَه من دمشق وخرج بهم، وما زال يسير حتى وصل بيسان، فنزل بأهله للراحة، وإذا بجماعة من التتار قد أدركوه، فلما رآهم وقد قصدوه ركب وأخذ رمحه بيده، وشد لحريمه خيلًا فأركبهم عليها، وسيَّر معهم ستة أنفس، وقال: انجوا بأنفسكم وهأنا واقف إلى أن تبعدوا.

فقالوا: ارجع معنا لعلنا أن نفوتهم، قال: لا والله ما أنهزم أمامهم ولكن أموت ولا أمكنهم يصلون إلى حريمي وعيني تنظر، فلما رآهم التتار عطفت طائفة منهم إليهم، فلما رآهم مال إلى نحوهم، فطعن واحدًا فأرداه، وطعن آخر أيضًا فقتله، ثم قتل آخر، وقد بُهتوا لفعله، ثم تكاثروا عليه إلى أن أسقطوا فرسه، فوقع على الأرض، وجرح منهم آخر وهو راجل، ثم قُتل : شهيدًا دون حريمه وماله، وقد كان صاحب مروءة ومكارم، وصاحب شجاعة وفروسية.

وأما السلطان فقد رجع في طائفة من الجيش إلى بلدة بعلبك، وأما العسكر فقد تفرقوا في كل ناحية، ووصل بعضهم إلى القلاع القريبة من مكان الوقعة، ونجا بنفسه من كان فيه قوة، وتوجه أقوام إلى جبال بعلبك وغيرها جياعًا عُراة مشاة.

فلما وصل المسلمون إلى قلعة حمص وجدوا أهلها فوق الأسوار يبتهلون إلى الله تعالى بالدعاء وكانوا ينادون: يا مسلمون، الرجعةَ الرجعةَ، لا تسلمونا إلى العدو، يا مسلمون المروءةَ المروءةَ، ولم يلتفت إليهم أحدٌ، فتباكوا وبكت الناسُ وبكى السلطانُ الناصر.

ولما رأى قازان أن جيش المسلمين قد انهزم فرح فرحًا عظيمًا، وأراد أن يلحق المسلمين، فمنعه بعض الأمراء وقال له: لا تعجل فربما يكون لهم كمين ويكون انهزامهم هذا مكيدة منهم، فقبل كلامه وتوقف عن اللحاق بهم، وذلك من لطف الله تعالى، ولو مشى وراء المسلمين لكان أخذ الجميع.

ولما بلغ أهلَ دمشق خبرُ كسرةِ السلطان عظم الضجيج والبكاء، وخرجت المخدرات حاسرات لا يعرفن أين يذهبن والأطفال بأيديهن، وصار كل واحد في شغل عن صاحبه، ثم بقيت المدينة بلا نائب ولا حاكم، وأكل الناس بعضهم بعضًا، وقرب التتار من دمشق وأحاطوا بالغوطة، وكثر العبث والفساد والنهب، وصار جميع أهل دمشق في الذل والهوان، وكثر النهب في البلد، واستبدَّ القتل في ضواحي دمشقَ وضياعِها، فيقال: إنه قتل ما يقارب مائةَ ألف إنسان من الجند والفلاحين والعامَّة، وكثر الطلب، وعجز المطلوب، وعسر الأمر على الناس، ونُهِبت بعض جهات البلد وسبي من كان فيه من النساء والأولاد، حتى بلغ ما أخذوا من النساء: مائة وعشرين بنتًا، وأسروا بعض القضاة وعملوا في رقبته حبلًا يجرونه به، ثم تركوه.

وأحاطت التتار بالقلعة من جميع الجهات، وبقيت الأماكن موحشة لا يجسر أحد أن يمُرَّ بها، ولم تبق حارة ولا محلة إلا وقد دخلها التتار ونهبوها، واختفى الناس.

وقد نُهِب من دمشق وما حولها ما لا يمكن حصره، وذكر أنهم أخذوا من الأسرى أحدَ عشرَ ألفَ نفس من الرجال والنساء والأطفال، وكان معظمهم من جبل الصالحية.

وقد كان معظم فساد التتار في جبل الصالحية لأنه كان يقطنها نفرٌ كثيرٌ من طائفة الأرمن، وقد كان في قلب قائدهم حزازات مِن فعل المسلمين في بلاده التي أخذت منه، وضياعه التي أخربت، ورجاله الذين قتلوا، والغارات التي كانت تتواتر على بلاده من جهة المسلمين، ولما حصل ما حصل من نصر قازان على المسلمين، حضر كبير الأرمن أمام قازان وطلب منه أن يمكنه من الدخول إلى الصالحية، فيضع السيف في أهلها، ويشفي غلَّه من المسلمين ويقيم في البلاد مقابل ألف ألف دينار، فوقف أميرُ قازان على دمشق في طريق كبير الأرمن، وتحدث مع قازان وقال له: قد مَلَكْت هذه البلاد وهي في يدك والمال الذي تحمَّلَه هذا تأخذه من أهل الشام من غير سفك دم، وما زال به حتى أفلس الأرمنيُّ الحاقدُ مما أراده.

ولما بلغ الحال ما بلغ، اجتمع أعيان البلد وشيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله، واتفقوا على المسير إلى قازان لمقابلته وأخذِ الأمان منه لأهل دمشق، فتوجهوا إليه واجتمعوا به عند النبك، وكلَّمه الإمام ابن تيمية كلامًا قويًّا فيه مصلحة عظيمة عاد نفعها على المسلمين، وأخذ منه الأمان للمسلمين، وذلك أن قازان والتتار كانوا يظهرون الإسلام، حتى إن الناس قد استشكلوا قتالهم، فقال لهم شيخ الإسلام ابن تيمية: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما.

وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والظلم، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، فتفطن العلماء والناس لذلك.

ثم قال: إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني، فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم.

ثم إنه قد قرئ الأمان على الناس فحمدوا الله تعالى، وحصل لهم سكون وطمأنينة.

وأما قازان فإنه وصل إلى حلب ووصل عساكره إلى حماة، فنهبوا من الدواب والأغنام والأبقار ما جاوز حد الكثرة، وسَبَوا عالمًا كثيرًا من الرجال والنساء والصبيان.

ثم إنَّ الله تعالى لطف بالمسلمين، فأرسل سبحانه على غازان وعساكرِه الأمطار والثلوج بحيث إنه أمطر عليهم واحدًا وأربعين يومًا، وقتٌ مطر ووقتٌ ثلج، فهلك منهم عالم كثير، ورجع غازان وعساكره إلى بلادهم أقبح من المكسورين، وقد تلفت خيولهم وهلك أكثرها، وعجَّزهم الله تعالى وخذلهم، وردهم خائبين عما كانوا عزموا عليه، {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا}.

ولما كان يوم الجمعة أعيدت الخطبة في سائر جوامع دمشق باسم السلطان الملك الناصر، وكان بالجامع الأموي ذلك النهار بكاء عظيم وتضرع إلى الله تعالى، وتذاكر بما كانت الناس فيه من الشدة والنهب والسبي، وكانت مدة انقطاع الخطبة عن ملك الإسلام نحو مائة يوم، ثم أعادها الله تعالى.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وعبده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

أما بعد:

فلما كان عام سبعِمائة واثنين من الهجرة قويت الأخبار بعزم التتار على دخول بلاد الشام، فانزعج الناس لذلك واشتد خوفهم جدًّا، وقنت الخطيب في الصلوات، وشرع الناس في الرحيل إلى الديار المصرية والكرك والحصون المنيعة، وتأخر مجيء العساكر المصرية فاشتد خوف الناس لذلك.

ثمَّ إنهم لم يلبثوا طويلًا حتى وصل الأمير بيبرس قادمًا من مصر بمن معه من العساكر إلى دمشق، وبقي يستحث السلطان على الخروج، وأقبل الناس من حلب وحماة إلى دمشق جافلين من التتار، فاستعد أهل دمشق للفرار ولم يبق إلا خروجهم، فنودي بدمشق: من خرج منها حَلَّ ماله ودمه.

ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك الأراضي فسادًا، وقلق الناس قلقًا عظيمًا، وخافوا خوفًا شديدًا، واختلط البلد لتأخر قدوم السلطان ببقية الجيش، وقال الناس: لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتار لكثرتهم، وتحدث الناس بالأراجيف فاجتمع الأمراء بالميدان وتحالفوا على لقاء العدو، وشجعوا أنفسهم، ونودي بالبلد ألا يرحل أحد منه، فسكن الناس وجلس القضاة بالجامع وحلَّفوا جماعة من الفقهاء والعامة على القتال، وتوجه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى العسكر الواصل من حماة فاجتمع بهم وأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم، وكان الإمام ابن تيمية يحلف للأمراء والناس إنكم في هذه الكرة منصورون.

فيقول له الأمراء: قل -إن شاء الله-، فيقول: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا، وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله منها قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}.

وفي يوم العاشر من شعبان ضربت البشائر بالقلعة وعلى أبواب الأمراء بخروج السلطان بالعساكر من مصر لمناجزة التتار المخذولين، كما حدث في ذلك اليوم أنه التقى جماعة من أمراء الإسلام في ألف وخمسمائة فارس مع التتار، وكان التتار في سبعة آلاف فاقتتلوا وصبر المسلمون صبرًا جيدًا، فنصرهم الله وخذل التتار، فقتلوا منهم خلقًا وأسروا آخرين، وولوا عند ذلك مدبرين، وغنم المسلمون منهم غنائم، وعادوا سالمين لم يفقد منهم إلا القليل ممن أكرمه الله بالشهادة.

وقد وصلت التتار إلى بلدة قارة، فانزعج الناس لذلك انزعاجًا شديدًا، ولم يبق حول القرى والحواضر أحد، وامتلأت القلعة والبلد وازدحمت المنازل والطرقات، واضطرب الناس، وخرج الإمام ابن تيمية وفي صحبته جماعة ليشهد القتال بنفسه ومن معه، وبقي البلد ليس فيه حاكم، وحيل بين الناس وبين خبر الجيش، وانقطعت الطرق، وظهرت الوحشة على البلد والحواضر، وليس للناس شغل غير الصعود إلى المآذن ينظرون يمينًا وشمالًا، وإلى النواحي، فتارة يقولون: رأينا غبرة فيخافون أن تكون من التتار، ويتعجبون من الجيش مع كثرتهم وجودة عدتهم وعددهم، أين ذهبوا؟ فلا يدرون ما فعل الله بهم.

فانقطعت الآمال وألح الناس في الدعاء والابتهال في الصلوات وفي كل حال، وكان ذلك يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان، وكان الناس في خوف ورعب لا يعبر عنه، لكن كان الفرج من ذلك قريبًا، ولكن أكثر الناس لا يعقلون، فقد جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "ضحك ربنا عز وجلّ من قنوط عباده وقرب غيره".

فلما كان آخر هذا اليوم وصل الأمير إياس المرقبي أحد أمراء دمشق، فبَشَّر الناس بقدوم السلطان واجتماع العساكر المصرية والشامية، فاطمأن الناس وسكنت قلوبهم.

ولما كانت ليلة الجمعة دخل شهر رمضان المبارك، وصليت التراويح، واستبشر الناس بشهر رمضان وبركته، ولكنهم أصبحوا يوم الجمعة في همٍّ شديد وخوف أكيد، لأنهم لا يعلمون ما خبر الناس.

ولما كان يوم السبت نشبت الحرب بين المسلمين والتتار، وقام الناس يبتهلون إلى الله عز وجلّ بالدعاء في المساجد والبلد، وطلع النساء والصغار على الأسطح وكشفوا رءوسهم وضج البلد ضجة عظيمة، ووقع في ذلك الوقت مطر عظيم غزير، ثم سكن الناس، فلما كان بعد الظهر قرئت بطاقة بالجامع تتضمن أن في الساعة الثانية من نهار السبت هذا اجتمعت الجيوش الشامية والمصرية مع السلطان في مرج الصفر، ثم عاد السلطان، ووقف خلفه الغلمان والأحمال والعساكر صفًّا واحدًا، وقال لهم: من خرج من الأجناد عن المصاف فاقتلوه ولكم سلبه.

وطلب من الناس الدعاء وأمرهم بحفظ القلعة، والتحرز على الأسوار فدعا الناس في المآذن والبلد، وانقضى النهار وكان يومًا مزعجًا هائلًا.

ولما اصطفت العساكر والتحم القتال، ثبت السلطان ثباتًا عظيمًا، وأمر بجَواده فقُيِّد حتى لا يهرب، وبايع الله تعالى في ذلك الموقف، وجرت خطوب عظيمة، وقتل جماعة من سادات الأمراء يومئذٍ.

فلما كان يوم الأحد أصبح الناس يتحدثون بكسر التتار، وخرج الناس إلى ناحية مكان الوقعة فرجعوا ومعهم شيء من المكاسب، ومعهم رءوس من رءوس التتار، وصارت كسرة التتار تقوى وتتزايد قليلًا قليلًا حتى اتضحت جملة، ولكن الناس لما عندهم من شدة الخوف وكثرة التتار لا يصدقون.

فلما كان بعد الظهر قرئ كتاب السلطان إلى متولي القلعة يخبر فيه باجتماع الجيش ظهر يوم السبت بشَقْحَب، وأن السيف كان يعمل في رقاب التتار ليلًا ونهارًا وأنهم هربوا وفرُّوا واعتصموا بالجبال والتلال، وأنه لم يسلم منهم إلا القليل.

وفي يوم الإثنين رابع الشهر رجع الناس من مكان الوقعة إلى دمشق فبشروا الناس بالنصر.

وفي هذه الواقعة تجلت شجاعة شيخ الإسلام ابن تيمية وجهاده، وبان فضله للناس، فلما انتهت معركة شَقْحَب، دخل رحمه الله البلد ومعه أصحابه، ففرح الناس به ودعوا له وهنئوه بما يسر الله على يديه من الخير، وذلك أنه ندبه العسكر الشامي أن يسير إلى السلطان يستحثه على السير إلى دمشق، فسار إليه فحثه على المجيء إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر، فجاء هو وإياه جميعًا، فطلب منه السلطان أن يقف معه في معركة القتال، فقال له الشيخ: السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم، وحرض السلطان على القتال وبشره بالنصر وجعل يحلف بالله الذي لا إله إلا هو إنكم منصورون عليهم هذه المرة، فيقول له الأمراء: قل -إن شاء الله-، فيقول: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا.

وأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم وأفطر هو أيضًا، وكان يدور على الأجناد والأمراء فيأكل من شيء معه في يده ليعلمهم أن إفطارهم ليتقووا على القتال أفضل فيأكل الناس، وكان يتأول في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم  للصحابة عام فتح مكة: "إنكم مُصَبِّحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا".

ولم يزل هذا دأبه رحمه الله، حتى نزل النصر على المسلمين، واستظهروا على التتار، وأمِنوا في ديارهم، ورُفِع عنهم البلاء، ولله الحمد والمنة.

فلما جاء الليل لجأ التتار إلى اقتحام التلول والجبال والآكام، فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب، ويرمونهم عن قوس واحدة إلى وقت الفجر، فقتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلا الله تعالى، وجعلوا يجيئون بهم في الحبال فتضرب أعناقهم، ثم هرب منهم جماعة، فنجا منهم قليل، وكانوا يتساقطون في الأودية والمهالك، حتى غرق منهم جماعة في الفرات بسبب الظلام، وكشف الله بذلك عن المسلمين غمة عظيمة شديدة.

ولما كان يوم الثلاثاء الخامس من رمضان، دخل السلطان إلى دمشق فنزل في القصر الأبلق، ثم تحول إلى القلعة فصلى بها الجمعة، واستقرت الخواطر، وذهب اليأس وطابت قلوب الناس، ولله تعالى المنُّ والفضل.

ولما رأى الناس حسن صنيعه، وما يسَّر الله على يديه من الفتح العظيم وكفِّ دماء المسلمين، شكروا له ذلك، وأثنوا عليه بما يستحقه من الثناء.

وما رأى الناس مثل سعادة ملكه ومسالمة الأيام له، وسكون الأعادي من بعد شَقْحَب، وإلى أن مات لم يتحرك عليه عدو في البر ولا في البحر.

نسأل الله أن يعيد لهذه الأمة أمجادها، وأن يرحم حالها، وأن يسدد أقوالها وأفعالها.